كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كان موته الطبيعي حياة له ومعنى هذا أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المردية وإخماد نيرانها المحرقة وتسكين هوائجها المتلفة فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ومعرفته والاشتغال به ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران فأما إذا كانت الشهوات وافدة واللذات مؤثرة والعوائد غالبة والطبيعة حاكمة فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرا ذليلا أو مهزوما مخرجا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلا ميتا وما لجرح به إيلام وأحسن أحواله أن يكون في حرب يدال له فيها مرة ويدال عليه مرة فإذا مات العبد موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة والأعمال الصالحة والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية والنفوس الزكية الأبية.
فصل المرتبة السابعة من مراتب الحياة حياة الأخلاق والصفات.
المحمودة التي هي حياة راسخة للموصوف بها فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال ولا يشق عليه لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء والمروءة والصدق والوفاء ونحوها أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك فإن هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك.
وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم ولهذا كان خلق الحياء مشتقا من الحياة اسما وحقيقة فأكمل الناس حياة أكملهم حياء ونقصان حياء المرء من نقصان حياته فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة وضدها من نقصان الحياة ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان وحياة السخي أكمل من حياة البخيل وحياة الفطن الذكي أكمل من حياة الفدم البليد ولهذا لما كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الناس حياة حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلى أجسامهم كانوا أكمل الناس في هذه الأخلاق ثم الأمثل فالأمثل من أتباعهم فانظر الآن إلى حياة حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم وحياة جواد شجاع بر عادل عفيف محسن تجد الأول ميتا بالنسبة إلى الثاني ولله در القائل:
وما للمرء خير في حياة ** إذ ما عد من سقط المتاع

فصل المرتبة الثامنة من مراتب الحياة حياة الفرح والسرور وقرة.
العين بالله وهذه الحياة إنما تكون بعد الظفر بالمطلوب الذي تقر به عين طالبه فلا حياة نافعة له بدونه وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم وكلهم قد أخطأ طريقها وسلك طرقا لا تفضي إليها بل تقطعه عنها إلا أقل القليل فدار طلب الكل حول هذه الحياة وحرمها أكثرهم وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والتمييز والبصيرة وضعف الهمة والإرادة فإن مادتها بصيرة وقادة وهمة نقادة والبصيرة كالبصر تكون عمى وعورا وعمشا.
ورمدا وتامة النور والضياء وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية والمقصود أن هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات وأمله موقوف على اجتناء اللذات وسيرته جارية على أسوأ العادات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات وهمته واقفة مع السفليات وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات فهو في الشهوات منغمس وفي الشبهات منتكس وعن الناصح معرض وعلى المرشد معترض وعن السراء نائم وقلبه في كل واد هائم فلو أنه تجرد من نفسه ورغب عن مشاركة أبناء جنسه وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس لرأى الإلف الذي نشأ بنشأته وزاد بزيادته وقوى بقوته وشرف عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله وسد قذى في عين بصيرته وشجا في حلق إيمانه ومرضا متراميا إلى هلاكه فإن قلت قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء فهل يمكنك وصف طريقها لأصل إلى شيء من أذواقها فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوها عن المنكرات والمنغصات وسلامة العاقبة قلت لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة وطلب علمها ومعرفتها لدليل على حياتك وأنك لست من جملة الأموات فأول طريقها أن تعرف الله وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة فينجذب.
إليها بكليته ويزهد في التعلقات الفانية ويدأب في تصحيح التوبة والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله ولا بخطرة فضول لا تنفعه فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها فيفدى من أسرها ويصير طليقا فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه وذكره كما قيل وأخرج من بين البيوت لعلني % أحدث عنك النفس في السر خاليا فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول واستولت روحانيته على قلبه فجعله إمامه ومعلمه وأستاذه وشيخه وقدوته كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه فيطالع سيرته ومبادئ أمره وكيفية نزول الوحي عليه ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه وما أريد بها وحظه المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة فيجتهد في تكميلها وإتمامها فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى يشاهد بها صفات الرب جل جلاله حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه واستواءه على عرشه ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته وتكليمه.
بالوحي وتكليمه لعبده جبريل به وإرساله إلى من يشاء بما يشاء وصعود الأمور إليه وعرضها عليه فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده آمرا ناهيا باعثا لرسله منزلا لكتبه معبودا مطاعا لا شريك له ولا مثيل ولا عدل له ليس لأحد معه من الأمر شيء بل الأمر كله له فيشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير فلا حركة ولا سكون ولا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره فيشهد قيام الكون كله به وقيامه سبحانه بنفسه فهو القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام وسائر صفات الكمال وصفة القيومية الصحيحة المصححة لجميع الأفعال فالحي القيوم من له كل صفة كمال وهو الفعال لما يريد فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح له مشهد القرب والمعية فيشهده سبحانه معه غير غائب عنه قريبا غير بعيد مع كونه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه قائما بالصنع والتدبير والخلق والأمر فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة فيأنس به بعد أن كان مستوحشا ويقوى به بعد أن كان ضعيفا ويفرح به بعد أن كان حزينا ويجد بعد أن كان فاقدا فحينئذ يجد طعم قوله ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد فإنه محب محبوب متقرب إلى ربه وربه قريب منه قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذكره وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله وهذه.
آلات إدراكه وعمله وسعيه فإن سمع سمع بحبيبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به فإن صعب عليك فهم هذا المعنى وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاته غائبة عنه فأضرب عنه صفحا وخل هذا الشأن لأهله:
خل الهوى لأناس يعرفون به ** قد كابدوا الحب حتى لان أصبعه

فإن السالك إلى ربه لا تزال همته عاكفة على أمرين استفراغ القلب في صدق الحب وبذل الجهد في امتثال الأمر فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته وآثار صفاته وأسمائه ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانا ويبدو أحيانا يبدو من عين الجود ويتوارى بحكم الفترة والفترات أمر لازم للعبد فكل عامل له شرة ولكل شرة فترة فأعلاها فترة الوحي وهي للأنبياء وفترة الحال الخاص للعارفين وفترة الهمة للمريدين وفترة العمل للعابدين وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة والتعرفات الإلهية وتعريف قدر النعمة وتجديد الشوق إليها ومحض التواجد إليها وغير ذلك ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد حتى تستقر وينصبغ بها قلبه وتصير الفترة غير قاطعة له بل تكون نعمة عليه وراحة له وترويحا وتنفيسا عنه فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه عاكفا على مزيد محبته وأسباب قوتها فهو يعمل على هذا ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له فيعمل على حصول ذلك ولا يعدم الطلب الأول ولا يفارقه ألبتة بل يندرج في هذا الطلب الثاني فتتعلق همته بالأمرين جميعا فإنه إنما يحصل له منزلة كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به بهذا الأمر الثاني وهو كونه محبوبا لحبيبه كما قال في الحديث: «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» إلخ فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له واستدعاء لمحبة ربه له.
فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه فقلبه للمحبة والانابة والتوكل والخوف والرجاء ولسانه للذكر وتلاوة كلام حبيبه وجوارحه للطاعات فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب وهذه الطريق وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة وهي ظاهر التقرب ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه وعقله وبدنه ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان فيعبد الله كأنه يراه فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف فيجود بروحه ونفسه وأنفاسه وإرادته وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط فليدم على ذلك وليتكلف التقرب بالإذكار والأعمال على الدوام فعساه أن يحظى بحال القرب ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله عن هذا المعنى حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا فذكر من مراتب القرب ثلاثة ونبه بها على ما دونها وما فوقها فذكر تقرب العبد إليه بالبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا فإذا.
ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة وههنا منتهى الحديث منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر أو إحالة له على المراتب المتقدمة فكأنه قيل له وقس على هذا فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة بل هو قرب حقيقي والرب تعالى فوق سماواته على عرشه والعبد في الأرض وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ثم التقرب ثانيا ثم حال القرب ثالثا وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب وحقيقة هذا الانبعاث أن تفنى بمراده عن هواك وبما منه عن حظك بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ولم تبق منه بقية لغير حبيبه كما قيل:
لا كان من لسواك فيه بقية ** يجد السبيل بها إليه العذل